مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِالله وَرَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَتُهُمَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ أَحْكَامٍ، سَواءٌ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ الْمُعَامَلَاتِ أَوِ السُّلُوكِ، وَعَدَمُ ابْتِدَاعِ شَيْءٍ فِي أَمْرِ هَذَا الدِّينِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ أَوْ يَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ. فَمَا حُكْمُ الْاِبْتِدَاعِ فِي الدِّينِ؟ وَمَا شُرُوطُ قَبُولِ الْعَمَلِ وَاعْتِدادِ الشَّرْعِ بِهِ؟
عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ الله عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [صحيحا الْبُخَارِي وَمُسْلِم]، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا: هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، رَوَتْ لِلْأُمَّةِ عِلْماً كَثِيراً وَفِقْهاً غَزِيراً، وَهِيَ أَفْقَهُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمُهُنَّ بِالدِّينِ وَالْأَدَبِ. وَكَانَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ فَتُجِيبُهُمْ. وَمَنَاقِبُهَا رَضِيَ الله عَنْهَا لَا تُحْصَى، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ أو ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ.
الْاِبْتِداعُ لُغَةً: إِحْدَاثُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ. أَمَّا الْبِدْعَةُ شَرْعاً، فَهِيَ طَرِيقَةٌ فِي الّدِينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ، يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى الله. [الاعتصام] وَحُكْمُهَا أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا، لَا يُعْتَدُّ بِهَا شَرْعاً، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا ثَوابٌ. وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» صَرِيحَةٌ فِي رَدِّ كُلِّ مَا لَا يَتَوَافَقُ مَعَ الشَّرْعِ، سَوَاءٌ ابْتَدَعَهُ فَاعِلُهُ، أَوْ سُبِقَ إِلَيْهِ. فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَمْ يَشْرَعْهُ الله وَرَسُولُهُ، أَوِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ مَا لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، أَوْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ آثِمٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إِبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا.
لَا يَدْخُلُ فِي الْبِدْعَةِ الْمَصَالِحُ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنِ السُّنَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرْعِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا هَذَا الرَّدُّ: كَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَكَالِاجْتِهَادِ بِرَدِّ فُرُوعِ الْفِقْهِ إِلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِ الله وَرَسُولِهِ، وَكَالْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ فِي النَّحْوِ وَالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ، مِمَّا مَرْجِعُهُ وَمَبْنَاهُ عَلَى كِتَابِ الله تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. ثَالِثاً:شُرُوطُ الْعَمَلِ الْمَقْبُولِ كُلُّ عَمَلٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الله تَعَالَى لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطَانِِ: الْإِخْلَاصُ، وَالْمُتَابَعَةُ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي هُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا. فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصاً لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَحْدَثٍ فِي الدِّينِ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ. [جامع العلوم والحكم بتصرف]. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
[الأنعام: 451]
يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ الله فِيهِ، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ فَعَلَهُ، وَإِنْ نُهِيَ عَنْهُ تَرَكَهُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ حُكْمُهُ بَيْنَ الْإِذْنِ وَالنَّهْيِ وَاشْتَبَهَ حُكْمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَالْأَحْسَنُ التَّوَرُّعُ عَنْهُ.
فَمَا هُوَ الْحَلَالُ؟ وَمَا هُوَ الْحَرَامُ؟ وَمَا هِيَ الْمُشْتَبِهَاتُ؟ وَمَا تَوْجِيهُ الشَّرْعِ فِي التَّعَامُلِ مَعَهَا؟
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلَا، وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ. أَلَا، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ» [صحيحا البخاري ومسلم].
النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الله، لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ الله عَنْهُ عَلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ عَلَى حِمْصَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ دِمَشْقَ، وَكَانَ خَطِيباً مُفَوَّهاً، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِينَ لِلْهِجْرَةِ.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى مَا يَأْتِي:
الْأَشْيَاءُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَعَلَى ضَوْءِ هَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
فَمَا نَصَّ الله عَلَى تَحْلِيلِهِ فَهُوَ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
[المائدة:6]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
[النساء: 42]، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَا نَصَّ الله عَلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
[النساء: 32] وَقَوْلِهِ:
وَكَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَكُلِّ مَا جَعَلَ الله فِيهِ حَدّاً أَوْ عُقُوبَةً أَوْ وَعِيدًا. وَمَا لَمْ يَنُصَّ الشَّرْعُ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا، وَتَنَازَعَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَجَاذَبَتْهُ الْمَعَانِي، فَهُوَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَالْإِمْساكُ عَنْهُ وَرَعٌ؛ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَ التَّمْرَةِ السَّاقِطَةِ حِينَ وَجَدَهَا فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا». [سنن البيهقي الكبرى]. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ». [سنن النسائي].
نَوْعٌ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا فَلَا يَقَعُ فِيهَا، فَيَسْلَمُ لَهُ دِينُهُ وَعِرْضُهُ. نَوْعٌ يَتَجَرَّأُ عَلَيْهَا مَعَ اشْتِبَاهِهَا، وَقَدْ تُفْضِي بِهِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ إِذْ يَحْمِلُهُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِهَا عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى الْحَرَامِ. وَقَدْ ضَرَبَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ لِذَلِكَ بِالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، وَهُـوَ الْمَرْعَى الْمَمْنُوعُ مِنـْهُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيـهِ؛ لِأَنَّ مَـنْ قَـارَبَ الشَّيْءَ خَـالَطَـهُ غَالِباً. قَـالَ تَعـَالَى:
[البقرة: 681]
فَنَهَى عَنِ الِاقْتِرَابِ حَذَراً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
أَنْ أَتَعَرَّفَ مَنْزِلَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْجَوَارِحِ.
لِلْقَلْبِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ لاَ تَبْلُغُهَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ، فَهُوَ مَكْمَنُ الْإِيمَانِ، وَمَحَلُّ نَظَرِ الرَّحْمَنِ، وَمَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَمَوْضِعُ التَّشْرِيفِ، وَالْمُسْتَفْتَى فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الله تَعَالَى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، لِمَا لَهُ مِنْ أَثَرٍفِي الْعَمَلِ. فَمَا مَنْزِلَةُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ؟ وَمَا تَأْثِيرُهُ فِي صَلَاحِ الْعَمَلِ أَوْ فَسَادِهِ؟
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلَا، وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ. أَلَا، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ» [صَحِيحَا البخاري ومسلم].
الْقَلْبُ: مَصْدَرُ«قَلَبَ» فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ اسْمٌ لِعُضْوٍ بَاطِنٍ فِي الْجَسَدِ عَلَيْهِ مَدَارُ حَالِ الْإِنْسَانِ. وَسُمِّيَ قَلْباً لِسُرْعَةِ الْخَوَاطِرِ فِيهِ وَتَرَدُّدِهَا عَلَيْهِ.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى مَا يَأْتِي
الْقَلْبُ هُوَ أَمِيرُ الْأَعْضَاءِ المُوَجِّهُ لَهَا، تَصْلُحُ بِصَلَاحِهِ، وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ؛ فَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ إِرَادَةٌ صَالِحَةٌ تَحَرَّكَ الْجَسَدُ حَرَكَةً صَالِحَةً، وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ إِرَادَةٌ فَاسِدَةٌ تَحَرَّكَ الْجَسَدُ حَرَكَةً فَاسِدَةً؛ فَفَائِدَتُهُ عَظِيمَةٌ إِذَا صَلَحَ، وَخُطُورَتُهُ شَدِيدَةٌ إِذَا فَسَدَ. [جامع العلوم والحكم بتصرف]. وَقَدِ اخْتَصَّ الله بِهِ جِنْسَ الْحَيَوَانِ، وَمَكَّنَهُ بِهِ مِنْ تَنْظِيمِ مَصَالِحِهِ الْمَقْصُودَةِ؛ فَتَجِدُ الِبَهَائِمَ تُدْرِكُ بِهِ مَصَالِحَهَا، وَتُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَضَارِّهَا وَمَنَافِعِهَا؛ ثُمَّ خَصَّ الله نَوْعَ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ إِضَافَةً إِلَى الْقَلْبِ، قَالَ تَعَالَى:
[الحج: 44]
وَسَخَّرَ الْجَوَارِحَ مُطِيعَةً لَهُ، فَمَا اسْتَقَرَّ فِيهِ ظَهَرَ عَلَيْهَا وَعَمِلَتْ بِمُقْتَضَاهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ»؛ فَصَلَاحُ الْقَلْبِ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ، وَفَسَادُهُ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ.
لِلْقَلْبِ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي صَلَاحِ الْعَمَلِ أَوْ فَسَادِهِ؛ فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ بِجَوَارِحِهِ الطَّاعَاتِ وَعَمِلَ الْخَيْرَاتِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَإِذَا فَعَلَ الْمَعَاصِيَ وَارْتَكَبَ الْمُنْكَرَاتِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَلْبِهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ مُصْلِحَاتِ الْقَلْبِ وَمُفْسِدَاتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ: فَمِمَّا يُصْلِحُهُ: تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِتَدَبُّرٍ، وَالصَّلَاةُ، وَذِكْرُ الله تَعَالَى، والصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدُّعَاءُ، والصَّدَقَةُ، وَالتَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَخَشْيَةُ الله وَحُسْنُ مُرَاقَبَتِهِ، وَقِيَامُ الَّليْلِ، وَالتَّضَرُّعُ فِي الْأَسْحَارِ، وَالتَّنَفُّلُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ، وَالتَّوَاضُعُ، وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ، وَزِيَارَةُ الْمَقَابِرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَأَعْظَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحَرِّي أَكْلِ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِوَمِمَّا يُفْسِدُهُ: هَجْرُ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَالغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِ الله تَعَالَى، وَتَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالْجَهْلُ بِالدِّينِ، وَفُضُولُ الْكَلاَمِ والنَّظرِ، وكَثْرَةُ النَّوْمِ والْأَكْلِ وَالضَّحِكِ، وَنِسْيَانُ ذِكْرِ الْآخِرَةِ، وَإِتْيَانُ الْمَعَاصِي؛ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ (لُغَـةٌ فِي صُقِلَ) قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ؛ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ الله:
[المطففين:41]».[سنن الترمذي]
الْيُسْرُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ مِنَ الْمَبَادِئِ الْعُظْمَى الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ بِمَظَاهِرِهِ الْمُتَنَوِّعَةِ، ويَتَمَيَّزُ - بِسَبَبِهِ - بِآثَارٍ بَارِزَةٍ، سَواءٌ فِي عَلاَقَةِ الْإِنْسَانِ بِرَبِّهِ، أَوْ فِي عَلاَقَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ فِي عَلاَقَتِهِ بِأَخِيهِ الْإِنْسَانِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» [صحيحا البخاري ومسلم].
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: هُوَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ الدَّوْسِيُّ، اشْتَهَرَ بِكُنْيَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي كَنَّاهُ بِهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، ثُمَّ لاَزَمَ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُلاَزَمَةً تَامَّةً رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ والاِقْتِدَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ؛ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالْحِرْصِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ. وَلاَّهُ عُمَرُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ وَلِيَ إِمَارَةَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ، أَوْ ثَمَانٍ، أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى مَا يَأْتِي:
جَاءَ الْإِسْلَامُ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ يَجِبُ امْتِثَالُهَا؛ إِلَََّا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَيَّدَ الْمَأْمُورَاتِ بِالاِسْتِطَاعَةِ. فَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَجَبَ تَرْكُهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ فَوْراً امْتِثَالًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ مَعْنَى وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ». وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ فَمَشْرُوطٌ فِي فِعْلِهِ وَامْتِثَالِهِ الِاسْتِطَاعَةُ؛ إِذْ قَدْ يَحُولُ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ الاِمْتِثَالِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ طَلَبُ التَّرْكِ، وَهُوَ مَقْدُورٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالِاسْتِطَاعَةِ؛ أَمَّا الْأَمْرُ فَقَدْ يُسْتَطَاعُ وَقَدْ لَا يُسْتَطَاعُ، وَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِالِاسْتِطَاعَةِ.وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَعْنَى الْحَدِيثِ: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عَجْزُ الْمُكَلَّفِ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضِ شُرُوطِهَا فَيَأْتِي بِمَا يَسْتَطِيعُ مِنْهَا؛ أَوْعَجْزُهُ عَنْ غَسْلِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَغْسِلُ الْمُمْكِنَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْضاً فِي إِزَالَةِ الْمُنْكَرَاتِ، إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَةُ جَمِيعِهَا أَزَالَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْهَا.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى مَا يَأْتِي
مِنْ آثَارِ يُسْرِ الْإِسْلَامِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَدَفْعُهُ إِلَى الْاِسْتِجَابَةِ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ الْاِمْتِثَالِ فِي كُلِّ حَالٍ. فَإِذَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِشَيْءٍ فَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَا نُطِيقُهُ وَنَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
[البقرة: 582] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [الحج: 67] بَلْ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ يُسْرِ الْإِسْلَامِ إِبَاحَتَهُ الْمُحَرَّمَ لِلضَّرُورَةِ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ اسْتِبْقَاءً لِلْحَيَاةِ؛ وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ: (الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ). وَمِنَ الْوَاجِبِ الْتِزَامُ مَبَادِئِ الْيُسْرِ، وَتَطْبِيقُهَا فِي أَدَاءِ التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ، رِفْقاً بِالنَّفْسِ، وَتَيْسِيراً لِلاِمْتِثَالِ، وَتَحْبِيباً فِي التَّدَيُّنِ، واجْتِنَاباً لِلتَّعْسِيرِ وَالْاِخْتِلَافِ الْمُؤَدِّيَيْنِ إلى الْحَرَجِ والْعَنَتِ والْفُرْقَةِ؛ وَلِذَلِكَ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ.
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنِ الاِخْتِلاَفِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»؛ لِأَنَّ الاِخْتِلاَفَ سَبَبُ التَّفَرُّقِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ أَمَرَ الله تَعَالَى بِالْوَحْدَةِ وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالاِخْتِلاَفِ، فَقَالَ تَعَالَى: [آل عمران: 301] وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاخْتِلاَفُهُمْ» هُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ لَا بِكَسْرِهَا، مَعْطُوفٌ عَلَى «كَثْرَةُ» لَا عَلَى «مَسَائِلِهِمْ» أَيْ: أَهْلَكَهُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَأَهْلَكَهُمْ اخْتِلاَفُهُمْ؛ وَهُوَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ نَشَأَ عَنِ الاِخْتِلاَفِ، لَا عَنْ كَثْرَتِهِ.
قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ السُّؤَالَ إِلَى قِسْمَيْنِ
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَلُّمِ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ؛ فَهَذَا مَطْلُوبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأنبياء: 7]
وَعَلَى هَذَا النَّوْعِ تَتَنَزَّلُ أَسْئِلَةُ الصَّحَابَةِ عَنِ الْأَنْفالِ وَالْكَلَالَةِ وَالْأَهِلَّةِ وَغَيْرِهَا .[فتح الباري لابن حجر] ثَانِيهِمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالتَّكَلُّفِ وَالْفُضُولِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْه، وَقَدْ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ»؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ رُبَّمَا نَشَأَ عَنْهَا كَثْرَةُ الْجَوَابِ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي سَبَبِ وُرُودِ الْحَديثِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يارَسُولَ الله؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُم؛ ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ».[صحيح مسلم] وَالسَّائِلُ هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ كَمَا جَاءَ فِي رِوايَةٍ أُخْرَى.
طَرِيقُ الْإِسْلاَمِ مَحَجَّةٌ بَيْضَاءُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» [سُنَنُ ابن ماجة]؛ لَكِنَّهُ قَدْ تَعْرِضُ أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ يَخْتَلِطُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَلَا يُمَيِّزُ حَقَّهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَا الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا أَنَّ الشَّيْءَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَمْ لَا؟ وَلَا أَنَّهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَوْ مِنَ الْمُنْكَرِ؟ وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالشُّبُهَاتِ . فَمَا الْمُرَادُ بِالشُّبُهَاتِ؟ وَمَا مَوْقِفُ الشَّرْعِ مِنْهَا؟
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سِبْطِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ الله عَنْهُما قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْمَدَنِيُّ، ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهَا وَسِبْطُهُ وَرَيْحانَتُهُ وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وُلِدَ مُنْتَصَفَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ .
سِبْطِ: قِيلَ:السِّبْطُ ابْنُ الْبِنْتِ، وَالْحَفِيدُ ابْنُ الِابْنِ؛ وَقِيلَ: مُتَرَادِفَانِ. دَعْ: اُتْرُكْ. يَرِيبُكَ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ، مِنْ رَابَ وَأَرَابَ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّيْبِ وَهُوَ الشَّكُّ.
أُحَدِّدُ مَا يَدُلُّ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى مَوْقِفِ الشَّرْعِ مِنَ الشُّبُهَاتِ.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى بَيَانِ مَعْنَى الشُّبُهَاتِ وَمَوْقِفِ الشَّرْعِ مِنْ أَنْوَاعِهَا؛
الشُّبُهَاتُ جَمْعُ شُبْهَةٍ، وَهِيَ: كُلُّ شَيْءٍ يُشْبِهُ الْحَلَالَ مِنْ وَجْهٍ، وَالْحرَامَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَفِي الْمُمْتَلَكَاتِ مَثَلاً: الْحَلَالُ الْيَقِينُ: مَا عَلِمَ مِلْكَهُ يَقِيناً لِنَفْسِهِ؛ وَالْحرَامُ الْبَيِّنُ: مَا عَلِمَ مِلْكَهُ لِغَيْرِهِ يَقِيناً؛ وَالشُّبْهَةُ: مَا لَا يَدْرِي أَهُوَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ،
فَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ. [عمدة القاري للعيني بِتَصَرُّفٍ].
حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِ الشُّبُهَاتِ لِالْتِبَاسِهَا وَخَفَائِهَا، ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ وَاضِحٌ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ لِوُضُوحِه وَانْتِشارِهِ، فَلَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُكْمُهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَلَالُ الْبَيِّنُ أَوِ الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، الَّلذَانِ وَرَدَا فِي حَديثِ الْمُشْتَبِهَاتِ السَّابِقِ. ثَانِيهِمَا: مَا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ بِتَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ لِعَدَمِ وُضُوحِ دَلِيلِهِ وَاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. فَمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَلَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا اشْتَبَهَ اتِّقَاءً لِلشُّبْهَةِ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»، أَيْ: اُتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِي حِرْمَتِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَاتَّجِهْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْهَا. [فتح الباري لابن رجب بِتَصَرُّفٍ]. وَقَدْ جَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَتْرُكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ» [سنن التِّرْمِذِيّ]. وَهَذِهِ دَرَجَةٌ مِنَ الْوَرَعِ أَعْلَى مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا.
مَا لَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ أَنْوَاعٌ، وَهِي دَرَجَاتٌ مُتَفاوِتَةٌ بِحَسَبِ قُرْبِهَا وَبُعْدِهَا مِنَ الْحَرَامِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الاِشْتِبَاهِ مَا يَأْتِي: الِاشْتِبَاهُ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ أَسْبَابِ الْحِلِّ وَالْحِرْمَةِ، كَأَنْ يَشُكَّ الْإِنْسانُ فِي الْمَالِ أَهُوَ مِلْكُهُ أَوْ لَا؟ أَوْ يَشُكَّ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ. الِاشْتِباهُ بِسَبَبِ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا. أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَرَامًا؛ فَيَشُكُّ الْمَرْءُ فِيهِ هَلْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُحِلُّهُ، مِثْلَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ أَكْلُهُ قَبْلَ ذَكَاتِهِ، فَإِذَا شَكَّ فِي ذَكَاتِهِ لَمْ يَزُلْ عَنِ التَّحْرِيمِ إلَّا بِيَقِينِ الذَّكَاةِ. [شرح صحيح البخارى لابن بطّال بِتَصَرُّفٍ].
هُنَاكَ أُمُورٌ فِيهَا مَعْنَى الشُّبْهَةِ لَكِنَّهَا لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهَا؛ لِذَلِكَ لَمْ تُعْطَ حُكْمَهَا، وَصَارَتْ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا. مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَلَالًا؛ فَيُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ؛ فَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يُعْلَمَ تَحْرِيمُهُ بِيَقِينٍ؛ لِقَاعِدَةِ: الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. مَنْ كَثُرَ شَكُّهُ وَأُصِيبَ بِالْوَسْوَاسِ؛ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يَلْتَفِتُ لِلشَّكِّ، كَمَنْ غَلَبَ عَلَيهِ الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: «لَا، حَتَّى يَجِدَ رِيحًا، أَوْ يَسْمَعَ صَوْتًا». وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ كَثِيرًا. [شرح صحيح البخارى لابن بطال بِتَصَرُّفٍ].
أَنَّ الْحَلالَ الْمَحْضَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ رَيْبٌ أَوْ حَرَجٌ، بَلْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، أَمَّا الشُّبُهَاتُ فَيَحْصُلُ بِهَا الرَّيْبُ وَالْحَرَجُ.
يَتَجَاوَزُ بَعْضُ النَّاسِ الْأَدَبَ فِي حَدِيثِهِمْ أَوْ سُلُوكِهِمْ مَعَ الْآخَرِينَ، فَلَا يُرَاعُونَ فِي ذَلِكَ حَقاًّ وَلَا خُلُقًا. وَسَبَبُ ذَلِكَ الْجَهْلُ وَعَدَمُ التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ؛ فَتَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ بقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَيَقَعُ أَوْ يُوقِعُ فِي الْحَرَجِ. فَمَا حَقِيقَةُ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي؟ وَمَا مَوْقِفُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ؟ وَمَا آثَارُهُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». [سُنَنُ التِّرْمِذِيُّ]
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ.
حُسْن : الْحُسْنُ ضِدُّ الْقُبْحِ. الْمَرْءُ: الشَّخْصُ، مَا لَا يَعْنِيهِ : مَالَا يُهِمُّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، الْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيهِ إِذَا اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ.
يُرْشِدُ الْحَدِيثُ إِلَى تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَاجُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا ضَرُورَةَ بِهِ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا مَصْلَحَةَ تَقْتَضِيهِ، لاَ فِي دِينٍ ولاَ دُنْيَا. وَبَيانُ ذَلِكَ فِي الْمَحَاوِرِ الْآتِيَةِ:
حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَديثِ عَلَى تَرْكِ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ مِمَّا لَا يُهِمُّهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْمُسْلِمِ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْإحْسَانِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مَرْتَبَةً عَالِيَةً فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». فَمَنِ اشْتَغَلَ بِمَا يَعْنِيهِ وَتَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، فَهُوَ الْمُحْسِنُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِسْلامِ ظَاهِرًا وَباطِنًا.
حَثَّ الْإِسْلامُ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَعْنِي لِمَا لَهُ مِنْ أَضْرَارٍ جَسِيمَةٍ وَعَوَاقِبَ وَخِيمَةٍ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا: ضَيَاعُ الْوَقْتِ النَّفِيسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ، وَالَّذِي يُعْتَبَرُ نِعْمَةً كُبْرَى وَمِنَّةً عُظْمَى. قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ: «وَفِي إِفْهَامِهِ أَنَّ مِنْ قُبْحِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ أَخْذَهُ مَا لَا يَعْنِيهِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَاعٌ لِلْوَقْتِ النَّفِيسِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُ فَائِتِهِ فِيمَا لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِهِ»[شَرْح الزُّرْقَانِي على الموطإ]. التَّفْرِيطُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي تَعْنِي الْإِنْسَانَ وَتُهِمُّهُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَا لَا يَعْنِي وَسِيلَةٌ لِتَرْكِ مَا يَعْنِي. أَنَّ الِاشْتِغالَ بِمَا لَا يَعْنِي غَالِبًا مَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ النَّدَمَ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسانُ مَا لَا يُرْضِيهِ، أَوْ يُوقِعَ نَفْسَهُ فِيمَا لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ. أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَوَهْنِ الْبَدَنِ وَتَعْسِيرِ الرِّزْقِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكُ ابْنُ دِينَارٍ: «إذَا رَأَيْتَ قَسَاوَةً فِي قَلْبِكَ، وَوَهْنًا فِي بَدَنِكَ، وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِكَ، فَاعْلَمْ بِأَنَّك تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَعْنِيكَ». [فيض القدير للمناوي]
وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مَعْنَى تَرْكِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَأَدْرَكُوا الْحِكْمَةَ مِنْهُ، فَكَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِمَا يَعْنِيهِمْ وَيَتْرُكُونَ مَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَنُقِلَتْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ: «وَمَنْ حَسَبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ». [صَحِيح ابْن حِبَّان] ذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ: «مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ يُرِيدُونَ الْفَضْلَ؛ فَقَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي». [المُوَطَّأ] رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ الله تَعَالَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغْلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ».
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ اشْتِغَالَهُ بِمَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ تَرْكَهُ مَا لَا يَعْنِيهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ الزُّرْقَانِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَعْنِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمَا تَعَلَّقَ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ مِنْ شِبَعٍ وَرِيٍّ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَعِفَّةِ فَرْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَزِيدِ النِّعَمِ. وَبِهَذَا يَسْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ دُنْيَا وَأُخْرَى. فَمَنْ عَبَدَ اللهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّه،ِ أَوْ قُرْبِ رَبِّهِ مِنْهُ، فَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.[شَرْح الزُّرْقَانِي على الموطإ]
حَثُّ الْإِسْلَامِ عَلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ وَالنَّفْعُ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ حَتَّى لَا يَضِيعَ عُمُرُهُ فِي سَفَاسِفِ الْأُمُورِ.
شَاءَتْ حِكْمَةُ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ مِنْ حَيْثُ اللَّوْنُ وَاللُّغَةُ وَالْعِرْقُ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ. وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَكُلُّهُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، تَجْمَعُهُمْ بِهَذَا رَوَابِطُ مَتِينَةٌ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى بِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ أُخُوَّةٍ وَمَحَبَّةٍ شِعَارُهَا: أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ.
فَمَا مَعْنَى مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ؟ وَمَا مَظَاهِرُهَا الَّتِي تُجَسِّدُهَا؟
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ خَادِمِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». [صَحيحَا الْبُخَارِي وَمُسْلِم]
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: هُوَأَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ الْأنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، يُكْنَى أَبَا حَمْزَةَ، خَادِمُ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ. كَانَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَلَداً. دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:«اللهمَّ بَارِكْ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ». [مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى] وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ فِي سَنَةٍ مرَّتَيْنٍ. وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ تِسْعِينَ، أَوْ إحْدَى، أَوْ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ لِلْهِجْرَةِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الرُّوَاةِ.
يَدْعُو الْحَدِيثُ إِلَى مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَحَاوِرِ الثََّلَاثَةِ الْآتِيَةِ:
مَحَبَّةُ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ كَرَمٌ فِي النَّفْسِ يَدْفَعُ عَنْهَا كَثِيراً مِنَ الرُّعُونَاتِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَدْفَعُ إِلَى أَخْلَاقٍ ذَمِيمَةٍ مِثْلِ الْحَسَدِ وَالْأَنَانِيَّةِ وَالِاسْتِئْثَارِ وَنَحْوِهَا، وَيَجْعَلُ صَاحِبَهَا يُحِبُّ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَلِكُلِّ النَّاسِ. وَقَدْ عَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا بِعِبَارَةٍ أَعْمَقَ وَأَبْلَغَ فِي قَوْلِهِ: «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؛ إِذْ بَلَغَ بِكَرَمِ هَذِهِ النَّفْسِ إِلَى أَنْ تُحِبَّ لِغَيْرِهَا كُلَّ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ الْخَيْرِ فَحَسْبُ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ». وَمَعْنَاهُ: لَا يَكْمُلُ إيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَيَحْصُلُ ذَلِكَ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِهِ بِأَنْ يُحِبَّ لَهُ حُصُولَ مِثْلِ مَا حَصَلَ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ أَكْمَلِهَا أَنْ يُحِبَّ لِلنَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ. يُحْكَى أَنَّ الْفُضَيْلَ ابْنَ عِيَاضٍ قَالَ لِسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مِثْلَكَ، فَمَا أَدَّيْتَ النَّصِيحَةَ لِرَبِّكَ، كَيْفَ وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا دُونَكَ؟». وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ وَمَظْلَمَتِهِ، يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِنْصَافِ أَخِيهِ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ أَوْ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ.
لِمَحَبَّةِ الْغَيْرِ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لَهُ مَكَانَةٌ كَبِيرَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، تَتَجَلَّى فِي: الْإِيمَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ». [صحيح ابن حبان]، أَمَّا أَصْلُهُ فَحَاصِلٌ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ. أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ وَالْأَنَانِيَّةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا..». [السُّنَن الكُبْرَى للْبَيْهَقِيّ] فَمَحَبَّةُ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، وَعَلاَمَةٌ عَلَى صَلَاحِ الْقَلْبِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ.
لِمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ مَظَاهِرُ وَعَلاَمَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ فِعْلًا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَفْرَحُ لِفَرَحِهِ، فَيَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ أَخَاهُ؛ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ. أَنُّهُ يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، فَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ أَخَاهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». [البخاري ومسلم] أَنْ يُعامِلَهُ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «... فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ...».[صحيح مسلم] أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، بَلْ مِنْ وَاجِبَاتِهِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلََّا بِهَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ..». وَالْمُرَادُ نَفْيُ كَمَالِ
لِلْإيمَانِ بِالله ارْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بِسُلُوكِ الْمُسْلِمِ؛ فَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي يُجَسِّدُهُ صَاحِبُهُ فِي خِصَالٍ كَرِيمَةٍ، كَحِفْظِ اللِّسَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ وَإكْرَامِ الضَّيْفِ؛ خِصَالٌ يَتَحَلَّى بِهَا وَيُتَرْجِمُ بِهَا إِيمَانَهُ إِلَى سُلُوكٍ عَمَلِيٍّ وَاقِعِيٍّ. فَمَا مَنْزِلَةُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ وَإكْرَامِ الضَّيْفِ مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَمَا عَلاَقَةُ هَذِهِ الْخِصَالِ بِالْإِيمَانِ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ». [صَحِيحَا الْبُخَارِي وَمُسْلِم]
الْيَوْمُ الْآخِرُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، وَلَا يُسَمَّى يَوْمًا إلَّا مَا أَعْقَبَهُ لَيْلٌ. يَصْمُتُ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُمِعَ كَسْرُهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالصَّمْتُ: السُّكُوتُ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ.
يَتَنَاوَلُ هَذَا الدَّرْسُ: الْكَلاَمَ عَلَى بَعْضِ خِصَالِ الْإِيمَانِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ، وَالْإحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَبَيَانَ مَظَاهِرِ عَلَاقَتِهَا بِالْإِيمَانِ؛ وَذَلِكَ فِي الْمَحَاوِرِ الْآتِيَةِ:
قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»، يَعْنِي مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُنْجِيَ مِنْ عَذَابِ الله، الْمُوصِلَ إِلَى رِضْوَانِ الله، «فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ»؛ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِالله حَقَّ إِيمَانِهِ خَافَ وَعِيدَهُ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَاجْتَهَدَ فَي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَأَهَمُّ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ضَبْطُ جَوَارِحِهِ الَّتِي هِيَ رَعَايَاهُ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَمِنْ أَسْبَابِ الْحَثِّ عَلَى حِفْظِ اللِّسَانِ مَا يَأْتِي:
أأَنَّ اسْتِقَامَةَ اللِّسَانِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ». أَنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ وَضَبْطَهُ سَبِيلُ النَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِماً مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ».[فتح الباري، ونسبه للطبراني] وَمِنْ قَوْلِ الْخَيْرِ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، والْبَلاَغُ عَنِ الله تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَنْ عِلْمٍ وَبِحِكْمَةٍ وَلُطْفٍ وَلِينٍ وَقَوْلٍ حَسَنٍ.
خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ اللِّسَانَ دُونَ غَيْرَهِ مِنَ الْجَوَارِحِ لِخُطُورَتِهِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِيمَا يَأْتِي: أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يُسَجَّلُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ أَكْثَرُ الْجَوَارِحِ ارْتِكَاباً لِلزَّلَّاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانَ إِلَى النَّارِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». [سنن الترمذي]. أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ، كَمَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَرَضِيَ الله عَنْهُمَا مَرْفُوعاً: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الله الْقَلْبُ الْقَاسِي».[سنن الترمذي]
قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فَليُكْرِمْ جَارَهُ... فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»، فِيهِ تَعْرِيفٌ لِحَقِّ الْجَارِ وَالضَّيْفِ وَبِرِّهِمَا.
أَوْصَى الله عَزَّ وَجَلَّ بِالْإحْسَانِ إِلَى الْجَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّرْغِيبِ فِي إكْرَامِ الْجَارِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ إِيذَائِهِ وَإلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْجَارِ عِنَايَةً خَاصَّةً تُثْمِرُ تَمَاسُكَ الْمُجْتَمَعِ، وَتُرَسِّخُ مَبْدَأَ التَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ وَالتَّعَايُشِ. وَمِنْ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْجَارِ وَارْتِبَاطِ إكْرَامِهِ بِالْإِيمَانِ: أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجَارِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ الدَّرْسِ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ».
أَنَّ الْإحْسَانَ إِلَى الْجَارِ وَصِيَّةُ الله لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا:«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». [صحيح الْبُخَارِيّ] أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ حَقِّهِ الْمُتَمَثِّلِ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الشِّرْكِ بِهِ، وَبَيْنَ حَقِّ الْجَارِ الْمُتَمَثِّلِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ: وَمِنْ إكْرَامِ الْجَارِ: إِسْدَاءُ ضُرُوبِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَمُوَاسَاتُهُ بِمَا عِنْدَهُ، وَإِعَانَتُهُ إِذَا اسْتَعَانَ، وَتَفَقُّدُ أَحْوَالِهِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ». [الجامع الصغير للسيوطي]
إِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَآدابِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ. وَقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إكْرَامَ الضَّيْفِ مِنْ عَلاَمَاتِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الدَّرْسِ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله والْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ». وَمِنْ إكْرَامِ الضَّيْفِ: حُسْنُ اسْتِقْبَالِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْبَشَاشَةِ، وَإِظْهَارُ التَّرْحَابِ بِهِ، وَتَنْزِيلُهُ الْمَنْزِلَةَ اللَّائِقَةَ بِهِ، وَتَأْنِيسُهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَبِكَرِيمِ الْمُحَادَثَةِ وَحُسْنِ الْاِسْتِمَاعِ، وَمَدُّ يَدِ الْعَوْنِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجاً، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْإفْصَاحِ عَنْ مَعَانِي الصِّحَاحِ: «فِي هَذَا الْحَديثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ أَنَّ إِكْرَامَ الضَّيْفِ عِبَادَةٌ لَا يَنْقُصُهَا أَنْ يُضِيفَ غَنِيّاً، وَلَا يُغَيِّرُهَا أَنْ يُقَدِّمَ إِلَى ضَيْفِهِ الْيَسِيرَ مِمَّا عِنْدَهُ؛ فَإكْرَامُهُ أَنْ يُسَارِعَ إِلَى الْبَشَاشَةِ فِي وَجْهِهِ، وَيُطَيِّبَ الْحَدِيثَ لَهُ. وَعِمَادُ أَمْرِ الضِّيَافَةِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ بِمَا فَتَحَ الله مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ». وَمِنْ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَارْتِبَاطِهِ بِالْإِيمَانِ: أَنَّ الضِّيَافَةَ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَقَدْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
اَلْإِنْسَانُ اجْتِمَاعِيٌّ بِطَبْعِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يُخَالِطَ الْآخَرِينَ فَيُصِيبَهُ مِنْهُمْ أَذىً مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَيَغْضَبُ وَيَتَحَرَّكُ لِيُقَابِلَ الْأَذَى بِالْأَذَى وَالشَّرَّ بِمِثْلِهِ. وَدَفْعاً لِذَلِكَ فَلِلشَّرْعِ مَوْقِفٌ مِنَ الْغَضَبِ يَدْفَعُ بِهِ آثَارَهُ الْوَخِيمَةَ فِي نَفْسِيَّةِ الْفَرْدِ وَسُلُوكِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ. فَمَا مَوْقِفُ الشَّرْعِ مِنَ الْغَضَبِ؟ وَمَا أَثَرُ تَمَالُكِ النَّفْسِ عِنْدَ الْغَضَبِ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي. فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ». [صَحِيحُ البخاري]
حَدِيثُ الدَّرْسِ مِنْ جَوَامعِ كَلِمِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ لَخَّصَ عِدَّةَ مَضَامِينَ أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:
لَمَّا طَلَبَ الصَّحَابِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِمَا يَنْفَعُهُ، قَالَ لَهُ: «لاَ تَغْضَبْ». وَتُعَدُّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُظْهِرَةِ لِسُمُوِّ بَلَاغَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ شَامِلَةٌ. فَفِيهَا النَّهْيُ عَنْ تَنْفِيذِ الْغَضَبِ، وَتَدْرِيبُ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَمْرُ بِضَبْطِ النَّفْسِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ الله تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَغْضَبْ» : لَا تَسْتَجِبْ لِدَاعِي الْغَضَبِ فِي نَفْسِكَ، وَلَا تَنْجَرَّ إِلَى إِمْلَاءَاتِ النَّفْسِ الْغَضْبَى. فَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْغَضَبُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَذَى بِالْأَذَى، وَالشَّرِّ بِالشَّرِّ، وَالسَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا؛ أَمَّا الْغَضَبُ نَفْسُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ شُعُورٌ، فَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، لِأَنَّهُ مِنْ طَبَائِعِهِ؛ لَكِنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُهَذِّبَ هَذِهِ الْغَرِيزَةَ بِأَنْ يَتَمَالَكَ نَفْسَهُ وَلَا يَنْقَادَ لَهَا؛ فَيُطْفِئُ جَمْرَةَ غَضَبِهِ، وَيَكْظِمُ غَيْظَهُ، وَلَا يُنَفِّذُ إِمْلَاءَاتِ النَّفْسِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ، وَيُقَاوِمُ نَفْسَهُ الَّتِي قَدْ تَفْقِدُ اتِّزَانَهَا بِسَبَبِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَانْفِعَالَاتِ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ». [مسند الإمام أحمد]. وَلِهَذَا يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ بِالْغَضَبِ مِنْ اعْتِدَالِ حَالِهِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ، وَيَرْتَكِبُ الْمَذْمُومَ، وَيَنْوِي الْحِقْدَ وَالْبَغْضَاءَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَالشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ التَّفَاعُلَ مَعَ الْغَضَبِ وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَجَابَ لِلْغَضَبِ فَقَدْ اسْتَجَابَ لِلشَّيْطَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ؛ وَالْوُضُوءُ وَالْاِسْتِعَاذَةُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ أَقْوَى السِّلَاحِ لِدَفْعِ كَيْدِهِ.
لَا يَخْفَى أَنَّ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ النَّاتِجِ عَنِ الْغَضَبِ جِمَاعَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ وَزَكِيَّ الثَّمَرَاتِ، مِنْ ذَلِكَ: نَيْلُ فَضْلِ مَدْحِ الله تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ لِمَنْ يَكْظِمُ غَضَبَهُ وَغَيْظَهُ؛ قَالَ تَعَالَى:
[آل عمران:431]
وَفَضْلِ مَدْحِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».[صحيح البخاري] الْفَوْزُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ، دَعَاهُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ».[سنن الترمذي] أَنَّهُ أَحَدُ أَبْوَابِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: [آل عمران:331 - 431]
مَلْءُ الْقَلْبِ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:»وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ الله قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .[المعجم الصغير للطبراني] إِرَاحَةُ الْقَلْبِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الصِّحَّةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَالْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلْغَضَبِ تُعَرِّضُ الصِّحَّةَ النَّفْسِيَّةَ وَالْجَسَدِيَّةَ لِلْمَخَاطِرِ وَالْأَعْرَاضِ السَّلْبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فِي دَفْعِ الْغَضَبِ عَنِ النَّفْسِ حِفَاظاً عَلَى الْعَلَاقَاتِ الْأُسْرِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ.
جَاءَ الْإِسْلَامُ رَحْمَةً لِكُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ وَغَيْرِهِمَا، فَشَرَعَ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ بِهِ مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَمَعَ الْحَيَوَانِ، وَفِي الْعِبَادَةِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْإِتْقَانِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَظِيمَ الْأَجْر فِي الْجِنَانِ.
فَمَا الْمُرَادُ بِالْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَيْفَ نُحْسِنُ إِلَى الْحَيَوَانِ؟
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [صَحِيح مسلم]
أَبُو يَعْلَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ: أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ. مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ خَمْسِينَ حَدِيثاً، عُرِفَ بِالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْخَوْفِ مِنَ الله وَالْحِكْمَةِ. نَزَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَتُوُفِّيَ عَامَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ.
كَتَبَ الْإِحْسَانَ: فَرَضَ الْإِتْقَانَ وَشَرَعَهُ.
مَا الْمَقْصُودُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»؟
أَسْتَخْلِصُ مِنْ الْحَدِيثِ كَيْفَ يَكُونُ الْإِحْسَانُ؟
يَشْتَمِلُ الْحَدِيثُ عَلَى فِقْهٍ عَظِيمٍ يَعُمُّ كُلَّ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرَهَا، وَهُوَ فِقْهُ الْإِحْسَانِ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي:
قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:»إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» مَعْنَاهُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ وَالْإِتْقَانَ وَتَحْقِيقَ الْجَوْدَةِ وَاجِبٌ وَمَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ وَكَلِمَةُ شَيْءٍ مِنْ أَنْكَرِ النَّكِرَاتِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا أَيُّ عَمَلٍ.
فَفِي الْعِبَادَاتِ يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[صحيحَا البخاري ومسلم] وَفِي الْمُعَامَلَاتِ أَمَرَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ الله رَجُلاً سَمْحاً إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى».[صحيح الْبُخَاريّ] وَفِي الْحِوَارِ وَالْجِدَالِ يَقُولُ الله عَزَّوَجَلَّ:
[العنكبوت: 64]. وَفِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا يَقُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ». [الأوسط للطبراني،وشعب الإيمان للبيهقي]
حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ والرِّفْقِ بِهَا وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ وَالثَّوَابَ الجَزِيلَ، كَمَا فِي إِرْشَادِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ لَمَّا سَأَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْراً؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». [الموطأ]، وَفي نَهْيِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن تَعْذِيبِهَا أَوْ ضَرْبِهَا أَوْ حَبْسِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» [صحيح مسلم] . وَمَعْنَى أَنْ تُصْبَرَ: أَنْ تُحْبَسَ بِلَا طَعَامٍ وَ لَا شَرَابٍ، وَكَمَا فِي حَديثِ: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ» [سنن ابن ماجة].
وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا الإِحْسَانِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ»: مِنْ الْإِحْسَانِ فِي ذَبْحِ الْبَهَائِمِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُتْقِنَ الذَّابِحُ ذَلِكَ وَيَتَجَنَّبَ التَّعْذِيبَ؛ وَأَنْ يَرْفُقَ بِالْبَهِيمَةِ فَلَا يَصْرَعْهَا بَغْتَةً، وَلَا يَجُرَّهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَأَنْ يُحِدَّ السِّكِّينَ، وَأَنْ يُوَجِّهَهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُسَمِّيَ وَيَحْمَدَ اللهَ تَعَالَى، وَيَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ، وَيَتْرُكَهَا إِلَى أَنْ تَبْرُدَ، وَأَنْ لَا يَشْحَذَ السِّكِّينَ أَمَامَهَا، وَأَنْ لَا يَذْبَحَ ذَبِيحَةً أُخْرَى أَمَامَهَا، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ شَيْئاً مِنْهَا حَتَّى تَمُوتَ.
وَكَمَا يُطْلَبُ الْإِحْسَانُ فِي ذَبْحِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي أَحَلَّ الله أَكْلَهَا، يُطْلَبُ أَيْضاً فِي قَتْلِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي أَبَاحَ الشَّرْعُ قَتْلَهَا لِضَرَرِهَا بِالْإِنْسَانِ، كَالْأَفَاعِي وَالْعَقَارِبِ وَالْفِئْرَانِ، أَوِالَّتِي نَزَلَ بِهَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ بُرْؤُهَا.
بَعَثَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرُّسُلَ دُعَاةً إِلَى تَوْحِيدِ الله وَتَقْوَاهُ حَقَّ التَّقْوَى وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». [الموطأ]
فَمَا التَّقْوَى؟ وَكَيْفَ نُحَافِظُ عَلَيْهَا؟ وَمَا الْخُلُقُ الْحَسَنُ الَّذِي نُخَالِقُ بِهِ النَّاسَ؟
عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بْنِ جُنَادَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». [سُنَنُ الترمذي]
أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَحَدُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ لِلْإِسْلَامِ، وَصَفَهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَاأَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ». [سنن الترمذي] نَزَلَ الرَّبَذَةَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا عَامَ وَاحِدٍ وَثَلَاثِينَ. مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَزْرَجِيُّ الْمَدَنِيُّ الْبَدْرِيُّ، أَسْلَمَ وَسِنُّهُ لَاتَتَجَاوَزُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ كَامِلاً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. عُرِفَ بِالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالتَّصَدُّقِ، وَتُوُفِّيَ بِالشَّامِ عَامَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ.
اتَّقِ اللهَ : أَمْرٌمِنَ التَّقْوَى، وَهِيَ: جَعْلُ الْعَبْدِ وِقَايَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَذَابِ الله، تَمْحُهَا : تُزِلْ آثَارَهَا وَإِثْمَهَا، خَالِقِ النَّاسَ: عَامِلِ النَّاسَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ.
يَشْتَمِلُ حَدِيثُ الدَّرْسِ عَلَى مَا يَأْتِي:
يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» أَيْ: فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتَ. وَسَبَبُ وُرُودِ هَذَاالْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ رَضِيَ الله عَنْهُ أَسْلَمَ وَرَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِقَوْمِهِ، فَلَمَّا رَأَى حِرْصَهُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ بِمَكَّةَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ لَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا...». فَالْأَمْرُ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَالتَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ، وَفِي أَيِّ مَجَالٍ، وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ دُونَ آخَرَ؛ فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى فِي أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْمَنْزِلِ، وَالسُّوقِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْعَمَلِ، وَفِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَفِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ.
بَعْدَ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْوَى أَمَرَ بِإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فَقَالَ: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»، حِفَاظاً عَلَى مُدَاوَمَةِ الْتِزَامِ التَّقْوَى، وَعَدَمِ إِهْمَالِهَا فِي أَيِّ لَحْظَةٍ أَوْ فِي أَيِّ حَالٍ.
وَعَلَاقَتُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، فَإِنَّهُ قَدْ تَحْصُلُ مِنْهُ غَفْلَةٌ، فَيَقَعُ فِي صِغَارِ الْمَعَاصِي، أَوْ يُقَصِّرُ فِيمَا تُوجِبُهُ التَّقْوَى، فَطُلِبَ مِنْهُ إِتْبَاعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ؛ لِتَمْحُوَهَا وَتُزِيلَ آثَارَهَا، وَيُحَافِظَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ
عَلَى تَقْوَاهُ، يَقُولُ الله عَزَّ وَجَل:
[هود: 411].
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ مَا يَشْمَلُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَكُلَّ مَا يُقَرِّبُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، كَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتَّعَاوُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ». [صحيح مسلم]
أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَالَقَةِ النَّاسِ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، أَيْ: عَامِلِ النَّاسَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ أَيْضاً بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ. وَمِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِالصِّدْقِ وَالإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَمُسَاعَدَةُ الْمُحْتَاجِ وَالضَّعِيفِ مِنْهُمْ، وَتَوْقِيرُ كَبِيرِهِمْ وَأَهْلِ الْفَضْلِ مِنْهُمْ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ بِعَدَمِ الْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَعَدَمِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَالِاحْتِقَارِ لَهُمْ، وَعَدَمِ إِذَايَةِ الْجِيرَانِ...؛ فَالْأَمْرُ بِالْمُخَالَقَةِ الْحَسَنَةِ يَعْنِي التَّحَلِّيَ بِحُسْنِ الخُلُقِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ جَمِيعاً، وَتَرْكَ كُلِّ مَا فِيهِ أَذىً لَهُمْ.
لِلْخُلُقِ الْحَسَنِ فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَأَجْرٌ عَمِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَفِي الدُّنْيَا مَحْمَدَةٌ وَعِبَادَةٌ وَنَيْلٌ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ، وَفِي الْآخِرَةِ رِفْعَةٌ لِلْعَبْدِ وَثِقَلٌ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».[سنن الترمذي] وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرَبِهِمْ مَجْلِساً مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:»إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا».[سنن الترمذي] وَحُسْنُ الْخُلُقِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيئِينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَخِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَايَجْزُونَ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ، وَيُحْسِنُونَ مَعَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ.
مِنْ ثَمَرَةِ حِفْظِ الله تَعَالَى، وَالتَّعَلُّقِ بِهِ سُؤَالاً وَطَلَباً، سِرّاً وَعَلَناً، فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، أَنْ يُشْمَلَ الْعَبْدُ بِحِفْظٍ إِلَهِيٍّ شَامِلٍ، يَجْعَلُهُ مُخْلِصاً فِي إِيمَانِهِ، مُطْمَئِنّاً فِي نَفْسِهِ، صَالِحاً فِي حَالِهِ، مُوَفَّقاً فِي عَمَلِهِ. فَمَا مَعْنَى حِفْظِ الله؟ وَمَا ثَمَرَتُهُ وَعَلَاقَتُهُ بِالْإِيمَانِ بِقَدَرِ الله؟
عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَومَاً، فَقَالَ: «يَاغُلاَمُ؛ إِنّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنْ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». [سُنَنُ الترمذي]
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً». [المستدرك للحاكم]
عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: هُوَ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَدُ الْعَبَادِلَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، مَنَاقِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، حَنَّكَهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ، وَدَعَا لَهُ فَقَالَ: «الَّلهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ». [المعجم الصغير للطبراني]، وَدَعَا لَهُ بِأَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ مَرَّتَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَكَانَ بَحْرَ الْأُمَّةِ، وَحَبْرَهَا، وَتُرْجُمَانَ الْقُرْءَانِ. عُرِفَ بِرَجَاحَةِ عَقْلِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَفِقْهِهِ وَعِلْمِهِ. تُوُفِّيَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَامَ ثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ.
اِحْفَظِ اللهَ : احْفَظْ أَوَامِرَ الله وَنَوَاهِيَهُ بِالِامْتِثَالِ. تَجِدْهُ تُجَاهَكَ: تَلْقَهُ أَمَامَكَ فِي كُلِّ مَا تُرِيدُ مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ مَكْرُوهٍ. كَتَبَهُ الله لَك : قَدَّرَهُ لَكَ. جَفَّتِ الصُّحُفُ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ الله لَا تَبْدِيلَ لَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. تَعَرَّفْ إِلَى الله: قُمْ بِحُقُوقِهِ وَوَاجِبَاتِهِ. فِي الرَّخَاءِ: فِي الصِّحَّةِ وَالْغِنَى. مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ: مَا قَدَّرَ الله أَنْ يُخْطِئَكَ لَنْ يُصِيبَكَ أَبَداً. وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَـرْبِ: أَنَّ ذَهَابَ الشِّدَّةِ وَزَوَالَهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعُسْرِ.
يَشْتَمِلُ حَدِيثُ الدَّرْسِ عَلَى وَصَايَا عَظِيمَةٍ جَامِعَةٍ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، نُجْمِلُهَا فِي الْآتِي:
قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ»، مَعْنَاهُ: اِعْمَلْ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَلَا يَرَكَ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّكَ تَجِدُهُ مَعَكَ فِي الشَّدَائِدِ، يَحْفَظُكَ بِحِفْظِهِ وَيَرْعَاكَ بِعِنَايَتِهِ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ ذَلِكَ: أَنَّك إِذَا حَفِظْتَ اللهَ حَقَّ الْحِفْظِ حَفِظَكَ بِكَمَالِ الرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، خُصُوصاً حَالَ الشِّدَّةِ؛ كَمَا وَقَعَ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْمَطَرُ فَآوَوْا إِلَى غَارٍ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَاسْأَلُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا، فَإِنَّهُ يُنْجِيكُمْ. فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَابِقَةً سَبَقَتْ لَهُ مَعَ رَبِّهِ، فَانْحَدَرَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَمَنْ كَانَ مُطِيعاً لِرَبِّهِ، مُؤْتَمِراً بِأَوَامِرِهِ، مُنْتَهِياً عَنْ نَوَاهِيهِ، كَانَ الله لَهُ فِي دُنْيَاهُ بِإِصْلَاحِ الْحَالِ، وَفِي أُخْرَاهُ بِالْإِثَابَةِ وَالرِّضْوَانِ.
قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله»، فِيهِ إِرْشَادٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُعَوِّلَ عَلَى سِوَاهُ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ مَا قَلَّ مِنْهَا أَوْ كَثُرَ.:
فَبِقَدْرِ مَا يَرْكَنُ الشَّخْصُ إِلَى غَيْرِ الله تَعَالَى بِطَلَبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَوْ بِأَمَلِهِ، يَكُونُ قَدْ أَعْرَضَ عَنْ رَبِّهِ وَالْتَجَأَ إِلَى مَنْ لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ.
فلَا تَتَوَجَّهْ إِلَى غَيْرِ الله رَجَاءً وَرَغْبَةً، أَوْ خَوْفًا وَرَهْبَةً؛ فَإِذَا سَأَلْتَ أَوِ اسْتَعَنْتَ فِي خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَاسْأَلِ اللهَ وَحْدَهُ وَاسْتَعِنْ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، أَوْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ لِتَحْفَظَ لَهُ حَقَّ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ، كَمَا يَسْتَوْجِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: [غافر: 31]
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» فِيهِ تَأْكِيدُ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِقَضَاءِ الله وَقَدَرِهِ رُكْنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، الَّتِي تُثْمِرُ أَنْ لَا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَسْأَلَ غَيْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لَا يَنَالُهُ نَفْعٌ أَوْ ضُرٌّ إِلَّا بِقَضَاءِ الله، الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إِنْزَالَهُ أَوْ دَفْعَهُ؛ فَلَوِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْعِكَ أَوْ ضَرِّكَ مَا قَدَرَتْ إِلَّا بِإِذْنِ الله. فَالْإِيمَانُ بِقَضَاءِ الله وَقَدَرِهِ يُثْمِرُ عَدَمَ تَعَلُّقِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ فَالْكُلُّ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ الَّذِي يَجِبُ الرِّضَا بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ. وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ أَيْضاً قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ». وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» تَأْكِيدٌ أَيْضاً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ خِلَافُ مَا كَتَبَهُ الله لَكَ أَوْ عَلَيْكَ بِنَسْخٍ أَوْ تَبْدِيلٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى:»وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»، فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ، مُعَرَّضُونَ لِلْمَصَائِبِ وَالِابْتِلَاءَاتِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
[البقرة: 451- 651]
.وَقَوْلِهِ تَعَالَى: . [الزمر: 11]
مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَامِعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ فِي شَرَائِعِهِمْ، وَعُرِفَتْ مِنْ ضِمْنِ الْمَحَامِدِ فِي مَأْثُورِ كُلِّ الْأُمَمِ، وَأَكَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَعَدَّتْهَا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْفَضْلَ الْكَثِيرَ، خُلُقُ الْحَيَاءِ.
فَمَا الْمُرَادُ بِالْحَيَاءِ؟ وَمَا ثَمَرَتُهُ؟ وَمَا مَظَاهِرُهُ وَأَنْوَاعُهُ؟
عَنْ أَبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».[صَحِيح البخاري]
أَبُو مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ الْبَدْرِيُّ، سُمِّيَ بَدْرِيّاً لِأَنَّهُ سَكَنَ بَدْراً وَاشْتَهَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَشْهَدْ غَزْوَةَ بَدْرٍ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِ الْقَوْمِ سِنّاً، وَشَهِدَ أُحُداً وَمَا بَعْدَهَا؛ وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ. اسْتَخْلَفَهُ عَلِيٌّ عَلَى الْكُوفَةِ يَوْمَ صِفِّينَ، وَتُوُفِّيَ عَامَ وَاحِدٍ وَ أَربَعِينَ لِلْهِجْرَةِ.
مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ: مِمَّا عَرَفُوهُ مَأْثُوراً عِنْدَهُمْ. مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: شَرِائِعِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ. لَمْ تَستَحْيِ: مُضَارِعُ اسْتَحْيَى، وَفِي رِوَايَةٍ تَسْتَحِ بِدُونِ يَاءٍ، مِنْ اسْتَحَى، بِمَعْنَى خَجِلَ وَاحْتَشَمَ. فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ: هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِمَعْنَى: افْعَلْ مَا شِئْتَ وَالله مُجَازِيكَ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى: مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَيَاءٌ فَعَلَ كُلَّ مَا يُسْتَنْكَرُ.
أُبَيِّنُ الْمَضْمُونَ العَامَّ لِلْحَدِيثِ.
يَشْتَمِلُ هَذَا الدَّرْسُ عَلَى الْكَلَامِ عَنْ خُلُقِ الْحَيَاءِ؛ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَأْتِي:
الْحَيَاءُ لُغَةً: بِالْمَدِّ الْحِشْمَةُ وَالِانْقِبَاضُ، وَالِامْتِنَاعُ وَالتَّرْكُ، وَالِاسْتِبْقَاءُ. وَالِاسْتِحْيَاءُ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَيَاءِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ: اسْتَجَابَ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عُرِّفَ الْحَيَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: خُلُقٌ يَحْمِلُ عَلَى إِتْيَانِ الْحَمِيدِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ. وَالْحَيَاءُ نَوْعَانِ: نَفْسَانِيٌّ، وَإِيمَانِيٌّ. فَالنَّفْسَانِيُّ: الْجِبِلِّيُّ الَّذِي خَلَقَهُ الله فِي النُّفُوسِ، كَالْحَيَاءِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِ؛ وَالْإِيمَانِيُّ: مَا يَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»، فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَرَجَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَيَاءٌ فَعَلَ كُلَّ مَا يُسْتَنْكَرُ. فَيُفْهِمُ أَنَّ الْحَيَاءَ يَحْمِلُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّ عَدَمَهُ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَعَاصِي؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ». [المستدرك للحاكم]؛ فَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَيَحْمِلُ عَلَى الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، كَمَا يَمْنَعُ الْإِيمَانُ صَاحِبَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيمَانِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ. وَمِنْ ثَمَرَتِهِ أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ؛ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ». [سنن الترمذي] وَالْبَذَاءُ: الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ.
مِنْ مَظَاهِرِ الَحَيَاءِ الْمَمْدُوحِ وَالْمَشْرُوعِ: فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمُرَاعَاةُ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَطَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَالْبُرُورُ بِهِمَا، وَعَدَمُ إِذَايَةِ الْجِيرَانِ، وَتَجَنُّبُ فُحْشِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ، وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَالُّلطْفُ بِالصَّغِيرِ، وَاحْتِرَامُ الطُّرُقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَشْرُوعَةِ وَالْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا. وَلَيْسَ مِنَ الْحَيَاءِ فِعْلُ الْمَعَاصِي، وَتَحْلِيلُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَدَمُ سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَنْفَعُ، وَعَدَمُ طَلَبِ الْعِلْمِ بِدَعْوَى الْحَيَاءِ، وَتَرْكُ الْمَبَادِئِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَدَمُ الْكَلَامِ فِيمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُسَمَّى حَيَاءً شَرْعاً، أَوْ هُوَ حَيَاءٌ مَذْمُومٌ، بَلْ هُوَ خَجَلٌ مَنْبُوذٌ.
مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِتْيَانَ كُلِّ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبٌ أَسَاسٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّ إِتْيَانَ أَنْوَاعِ التَّطَوُّعَاتِ اسْتِزادَةٌ وَكَمَالٌ نَدَبَ إِلَيْهِمَا الشَّرْعُ. فَمَا حُكْمُ مَنْ اكْتَفَى بِإِتْيَانِ الْفَرَائِضِ؟ وَهَلْ يَكْفِي ذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا مَرْتَبَةُ كُلٍّ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْفَرَائِضِ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ؟
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئاً، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» [صَحِيح مُسْلِم].
أَبُو عَبْدِ الله؛ هُوَ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ السَّلَمِيُّ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ أَبِيهِ صَغِيراً. وَهُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ، رُوِيَ لَهُ ألْفٌ وَخَمْسُ مِئَةِ حَدِيثٍ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثاً. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْمُبَيِّنَةِ لِلتَّكَالِيفِ الْوَاجِبَةِ؛ وَالرَّجُلُ السَّائِلُ فِيهِ هُوَ: النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ بِفَتْحِ الْقَافَيْنِ؛ وَذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَإِحْلاَلُ الْحَلَالِ، وَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ، وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الزَّكاةُ وَالْحَجُّ لِعَدَمِ فَرْضِهِمَا بَعْدُ، أَوْ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِمَا. وَلِبَيَانِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ نَتَنَاوَلُ مَحَاوِرَهُ عَلَى مَا يَأْتِي:
وَقَالَ ابْنُ الصَّلاَحِ رَحِمَهُ الله: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ» أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ حَرَاماً. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَفْعَلَهُ؛ بِخِلَافِ تَحْلِيلِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ اعْتِقَادِهِ حَلَالاً.
الِاكْتِفَاءُ بِالْفَرَائِضِ كَافٍ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ الله تَعَالَى وَفَضْلِهِ، وَذَلِك وَاضِحٌ فِي إِجَابَتِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «نَعَمْ»، لِلسَّائِلِ: أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضاً مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَالَّليْلَةِ؛ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إِلَّا َأَنْ تَطَّوَّعَ؛ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ؛ قَالَ: وَذَكَرَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ؛ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ؛ قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالله لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ.[الموطأ]؛ بَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: «أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ» عَلَى فَلاَحِ مَنِ اِكْتَفَى بِالْفَرَائِضِ. وَأَفَادَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئاً مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، وَأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ التَّطَوُّعَاتِ.
يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، وَقَوْلُهُ: «لَا إِلَّا أَنَّ تَطَّوَّعَ»، وَقَوْلُهُ: «أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ»، عَلَى: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْفَرَائِضِ وَحْدَهَا كَانَ نَاجِياً مُفْلِحاً، كَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْفَرَائِضِ وَأَتْبَعَهَا النَّوَافِلَ كَانَ أفْضَلَ مَرْتَبَةً وَفَلاَحاً. وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُثَابِرُونَ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ مُثَابَرَتَهُمْ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَلَمْ يَكُونُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي اغْتِنَامِ ثَوابِهَا، وَتَتْمِيمِ الْفَرَائِضِ بِهَا، تَحْقِيقاً لِمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ. وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهَ السَّائِلِ عَلَى السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ تَيْسِيراً وَحَذَراً مِنَ التَّنْفِيرِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، لِئَلَّا يَكُونَ الإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ تَنْفِيراً لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَشَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ رَغِبَ فِيمَا رَغِبَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ وُجُوبَ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْفَرَائِضِ وَحْدَهَا بِإِقَامَتِهَا وَالإِتْيَانِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ فَلاَحٌ أَيُّ فَلاَحٍ، وَضَمُّ التَّطَوُّعِاتِ إِلَيْهَا زِيادَةٌ فِي الْفَلاَحِ يُتَقَرَّبُ بِهَا لِنَيْلِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَبْرٌ لِمَا يَقَعُ مِنْ نَقْصٍ فِي الْفَرَائِضِ؛ كَمَا أَنَّ ِاتِّصَافَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخُلُقِ اليُسْرِ وَالرِّفْقِ وَالْحِكْمَةِ فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ أَحْكَامَ الدِّينِ بَيَانٌ لِعِظَمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَرَحْمَتِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنَامِ.
يسعدنا أن نقدم لطلبتنا في المستوى الأكاديمي الأول من برنامج الدراسات الإسلامية مقرر مادة الحديث من خلال النصف الأول من كتاب: «الأربعين النووية للإمام النووي بشرح ابن دقيق العيد» الذي جاء بتوفيق من الله تعالى مواكبا للبرامج والمناهج التي تسعى إلى تجويد العملية التعليمية التعلمية وإعداد الطلبة المتشبعين بالقيم الإسلامية السمحة، وبهوية الأمة المغربية وثوابتها. ولتحقيق المقاصد والأهداف المرجوة من وراء هذا العمل، تم اعتماد منهجية علمية واضحة تستهدف تقديم المفاهيم العلمية من خلال خطوات منهجية تقرب المضامين المقررة، وتعطي الفرصة لبناء التعلمات، واكتساب القيم والمهارات. وأملنا في الله كبير أن يكون هذا المقرر مفتاحا أساسا لتحصيل العلم والمعرفة، وترسيخ القيم والأخلاق، والتشبع بالثوابت لدى الجيل الناشئ من أبناء أمتنا.
1. امتلاك رصيد هام من الأحاديث النبوية الشريفة في مجال القيم والأخلاق الإسلامية. 2. التعرف على الفضائل والآداب النبوية، والتشبت بروح القيم والأخلاق. 3. التعود على التمسك بالسنة النبوية في حياة الفرد والجماعة
كتاب الأربعين النووية للإمام النووي.
1. كتاب الأربعين النووية بشرح ابن دقيق العيد.
2. مقرر مادة الحديث للسنة الخامسة من التعليم الإبتدائي العتيق، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.