اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يخلق شرًّا محضًا، بل أودع الله فيما يظنه العبد شرًّا خيرًا كثيرًا، والمؤمن العارف بربه يستطيع أن يغيِّر النقم إلى نعم، ويستبدل المحن بالمنح؛ لذا كان العارفون يفرحون بالبلاء كما يفرح الواحد منا بالرخاء؛ لما تنكشف مع البلاء والاقدار الحكم والأسرار، وصدق -سبحانه وتعالى- القائل: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاء الأنبياء والصالحين بالمرض والفقر، وغيرهما، ثم قال: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) (رواه ابن ماجه)، وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: “إن مَن قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عدّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عدّه بلاء”، وقال بعض علماء السلف: “يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظمُ من نعمته عليك فيما تُحبّ”.
ومِن أعظم فوائد المحن أنها تظهر لنا قدر النعمة، وتوقظ العبد من غفلته، وتهمل على تطوير مهاراته، وتجديد حياته، فكثيرا ما ينسى المرء نعما جزيلة عنده، بسبب زحمة الحياة والانهماك في دروبها ودياجيرها؛ وتأتي المحن لتوقظ النائم، وتقيم الغافل، قال -تعالى-: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)، والمعنى: بلوناهم بالنعم والمصائب؛ ليرجعوا إلى ربهم، وينيبوا إليه، ويتوبوا عن معاصيه، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: “ما يكره العبدُ خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه”.
ومِن فوائد المحن: أنها تعرِّف العبد حقيقةً الدنيا، وأنها طبعت على كدر، وأنها بين لحظة وأخرى تنقلب على صاحبها، قال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20).
ومِن فوائد المحن: أنها تكفِّر الذنوب والخطايا، وتقرب العبد من رب العباد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) (متفق عليه)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال بعض السلف: “لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس”.
ومِن فوائد المحن: أنها تطهر القلوب وتنقي النفوس، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب زاد المعاد: “لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمِن رحمة الله -أرحم الراحمين- أن يتفقده في الأحيان بأنواع أدوية المصائب تكون حمية له مِن هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه! فلولا أنه -سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله -تعالى- إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سقاه دواءً مِن الابتلاء والمحن على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه”.
ومِن فوائد المحن: أنها تذكر حال أهل البلاء، فالإنسان لا يعرف قيمة النعمة التي أنعم الله عليه فيها إلا إذا شاهد أهل البلاء؛ فكم أقامنا الله وأقعد غيرنا، وكم أصحنا وأمرض غيرنا، وكم عافانا وابتلى غيرنا، فإذا تعرض الإنسان للمرض عرف قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليه؛ فأدَّى ذلك إلى شكره -سبحانه وتعالى-، وتذكر حال أهل البلاء فدعا الله لهم وله بالعافية، قال أحدهم: « إنما يعرف قدرَ الماء منْ ابتُلي بالعطشِ في الباديةِ، لا منْ كانَ على شاطىء الأنهار الجارية».
ومِن فوائد المحن -ولعلها أهمها-: استخراج عبودية الضراء (الصبر)، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155)، فالله يبتلي عباده ليختبرهم ويمتحنهم، فيستخرج منهم عبودية الضراء، وهي “الصبر”، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه) (رواه مسلم)، قال عبد الملك بن أبجر -رحمه الله-: “ما مِن الناس إلا مبتلى بعافية؛ لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف يصبر”، وقال بعض السلف: “لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام”.