فضل العفو والإصلاح بين الناس
سنتطرق في هذه المقالة -بإذن الله- إلى موضوع مهم نحتاجه جميعا بلا استثناء، وما ذاك إلا لأنه انتشر بين الناس، وعمت الفرقة بينهم، حتى دب الأمر إلى الأسرة الواحدة، بل إلى الولد مع أبويه فضلا عن الجيران والأقارب، إنها النفرة، وفساد ذات البين بين الناس، ولو فتشت عن سبب القطيعة والنفرة لوجدته هينا، ولكن الشيطان نفخ فيه وفخمه، وباعد بين الطرفين، ولضعف الإيمان وجد الشيطان قابليةً له بين الناس فأصبح يحرش بينهم، ويفرق الأواصر، ويقطعها.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"، يعني قدر على التحريش، ونجح فيه.
الناس في الفرقة والقطيعة بين اثنين ظالمٍ معتد، ومظلومٍ معتدى عليه، ويعظم الاعتداء والظلم من شخص لآخر، فيبدأ بكلمة لا تليق، وينتهي بالقتل، فإذا دبت الفرقة بين الطرفين دخل الشيطان بينهما؛ فإن كان سبب الخلاف من أمور الدين، فلا صلح بين الطرفين إلا بالدين، بأن ينزع العاصي، ويزول المنكر، وأما إن كان السبب من أمور الدنيا، فالهجر بينهما محرم لا يجوز وخيرهما الذي يعفو ويصفح، ويبدأ بالسلام.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
أسباب الهجر ووقوع الخلاف:
للهجر بين الناس ولوقوع الخلاف بينهم في مجتمعنا أسباب وعوامل؛ فمن أهمها:
- إطلاق اللسان بالكلام على عواهنه بلا تروٍ يفسد بين الناس؛ كما قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53]، فمن لم يتكلم بالتي هي أحسن فإن الشيطان ينزغ بينهم بالإفساد والقطيعة، حتى ولو لم يكن المتكلم يقصد ما وقع في قلب الآخر، بل إن مجرد كثرة الكلام مع الآخرين خصوصا إذا مزجت بالمزاح يدس فيها الشيطان ما يفسد العلاقة، ويوغر الصدور.
- العتاب بالكلام الذي يقع بين المسلمين أمام الناس، فإنه يوغر الصدور، ويطيل زمن الفرقة، وللشيطان فيه نصيب كبير.
- سوء الظن بالآخرين، فتجد المرء يحمل كلام أخيه على أسوء المحامل، مع أنه يجد لها في الخير محملا.
- ضيق النفس، وعدم التحمل، والواجب على الجميع أن يعفوَ ويصفح? عن زلات أخيه، ولو أخطأ عليه، وعليه أن يجعل مناصحته له تكون سرا، فكما أنك قد تزل أحيانا بما لا يليق، فالناس كذلك يزلون، فلتتسع صدورنا للآخرين، ولنمح زلاتهم، فعما قليل يراجعون.
- سوء الخلق من البعض، فبعض الناس يعيش بأخلاق سيئة، فلا يحتمله الناس ولا يقبلونه، وتجده في عداء مع الكثير من الناس، فمن أحب أن يقل شانؤوه، ويكثرَ محبوه، فليحسن خلقه، وليبدأ بالكلمة الطيبة، وليتجنب ألفاظ السوء، فضلا عن أفعاله، فإن المسلم مطالب أن يحسّن معاملته في كل شيء، بدأ بمعاملته مع الله -سبحانه- في أدائه لعباداته، ونهاية بالحيوانات، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
- نقل الكلام بين الناس، ألا وهي النميمة، فالنمام يفسد في ساعة مالا يفسده الساحر في سنة، ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منها، وسماها العَضْه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود مرفوعا: "ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس"، وصدق الله العظيم القائل: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
- مخالفةُ الهدي النبوي في المعاملة بين الناس، وذلك كمناجاة الرجلين دون الثالث، وعدم إجابة الدعوة، وعدم إفشاء السلام، وعدم التواصل والزيارة، خصوصا للمرضى والمحاويج.
لا بد من الإشارة إلى أن أحسن الناس من كان مفتاحا لكل خير، مغلاقا لكل شر، يسعى بين الناس للإصلاح، وذلك من أعظم الطاعات، فلقد كان من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الإصلاح بين الناس، ومن عظيم فضل الإصلاح بين الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح الكذب فيه، أخرج البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة مرفوعا: "ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا ويقول خيرا".
وفي الجهة المقابلة يجب علينا عندما يخطئُ علينا أحدٌ من الناس أن نسعى إلى العفو والصفح؛ لأننا نرجو ثواب الله، ونغلب جانب الخير فيمن أخطأ علينا، ونتذكر حسناته الكثيرات، ونسمح عن السيئات القليلات في حقنا، ولنعلم أن من صفات الله أنه العفو؛ كما قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149].
ولهذا كان من أعلى خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يعفو عمن ظلمه، وهكذا الصحابة من بعده فمن القصص التي سطرها التاريخ وكتب أهل العلم عن عفو النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: "مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء".
أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم حنين آثر النبي -صلى الله عليه وسلم- أناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتيته فأخبرته، فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وإن ننسى من المواقف الكثيرة، فلا ننسَ عفوه عن أهل مكة عندما فتحها، فهؤلاء القوم هم الذين طردوه من بلده، وسبوه، وسبوا ربه، وصدوا عن سبيل الله، ووصفوه بكل وصف قبيح، فلما قدر عليهم، قال: "أذهبوا فانتم الطلقاء".
ومن عفو أصحابه من بعده: قصة أبي بكر مع مسطح بن أثاثة الذي خاض في عرض عائشة، وقذفها بالزنا، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فعل ما فعل قطع النفقة عنه وحلف أن لا يعطيه بعدها شيئا، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النــور: 22] فلما سمعها أبو بكر رد النفقة عليه، وكفر عن يمينه، وقال: "بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي" [والحديث في البخاري]، ومن فوائد هذا الحديث: أن من أراد أن يعفو عنه الله فليعف عن الناس، فالجزاء من جنس العمل.
إن الذي يصدر منه الخطأ تجاهنا لا يخلو من أن يكون عاقلا، فهذا نحتمل خطأه لعقله، أو حاسدا، فهذا نعرض عنه ليحرق قلبه، أو جاهلا، فهذا نعرض عنه لنسلم من شره؛ كما قال الأول:
يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا
وقال الآخر:إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت
إن الذين يصرون على هجران إخوانهم بسبب ملاحاة بينهم، أو سوءِ عشرة، هم يطيعون الشيطان، ويعصون الرحمن، فضلا على أنهم يحرمون أنفسهم من خير عظيم، وهبه الله للناس في كل أسبوع؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا".
ونحتم بالدعوة إلى ضرورة مراجعة أنفسنا، ومواصلة كل من قاطعناه من أجل الدنيا، فالدنيا فانية، وليست بأهل أن يتشاجر عليها الناس.